خرج توفيل بن ميخائيل ملك الروم إلى بلاد الإسلام، وأوقع بأهل زبطرة وغيرها، وكان سبب ذلك أن بابك لما ضيق الأفشين عليه، وأشرف على الهلاك، كتب إلى ملك الروم توفيل يعلمه أن المعتصم قد وجه عساكره ومقاتليه إليه، ولم يبق على بابه أحد، فإن أردت الخروج إليه فليس في وجهك أحد يمنعك؛ ظنا أن ذلك يخفف عنه، فخرج توفيل في مائة ألف، وقيل أكثر، منهم من الجند نيف وسبعون ألفا وبقيتهم أتباع، ومعهم من المحمرة الذين كانوا خرجوا بالجبال فلحقوا بالروم حين قاتلهم إسحاق بن إبراهيم بن مصعب، فبلغ زبطرة، فقتل من بها من الرجال، وسبى الذرية والنساء، وأغار على أهل ملطية وغيرها من حصون المسلمين، وسبى المسلمات، ومثل بمن صار في يده من المسلمين وسمل أعينهم، وقطع أنوفهم وآذانهم، فخرج إليهم أهل الثغور من الشام والجزيرة، إلا من لم يكن له دابة ولا سلاح.


كان العباس بن المأمون مع عمه المعتصم في غزوة عمورية، وكان عجيف بن عنبسة قد ندمه إذ لم يأخذ الخلافة بعد أبيه المأمون بطرسوس حين مات بها، ولامه على مبايعته عمه المعتصم ولم يزل به حتى أجابه إلى الفتك بعمه وأخذ البيعة من الأمراء له، وجهز رجلا يقال له الحارث السمرقندي وكان نديما للعباس، فأخذ له البيعة من جماعة من الأمراء في الباطن، واستوثق منهم وتقدم إليهم أنه يلي الفتك بعمه، فلما فتحوا عمورية واشتغل الناس بالمغانم، أشار عليه أن يقتله، فوعده مضيق الدرب إذا رجعوا، فلما رجعوا فطن المعتصم بالخبر، فأمر بالاحتفاظ وقوة الحرس وأخذ بالحزم، واجتهد بالعزم، واستدعى بالحارث السمرقندي فاستقره فأقر له بجملة الأمر، وأخذ البيعة للعباس بن المأمون من جماعة من الأمراء أسماهم له، فاستكثرهم المعتصم واستدعى بابن أخيه العباس فقيده وغضب عليه وأهانه، ثم أظهر له أنه قد رضي عنه وعفا عنه، فأرسله من القيد وأطلق سراحه، فلما كان من الليل استدعاه واستحكاه عن الذي كان قد دبره من الأمر، فشرح له القضية، وذكر له القصة، فإذا الأمر كما ذكر الحارث السمرقندي.

فلما أصبح استدعى بالحارث فأخلاه وسأله عن القضية ثانيا فذكرها له كما ذكرها أول مرة، فقال: ويحك، إني كنت حريصا على ذلك، فلم أجد إلى ذلك سبيلا بصدقك إياي في هذه القصة.

ثم أمر المعتصم حينئذ بابن أخيه العباس فقيد وسلم إلى الأفشين، وأمر بعجيف وبقية الأمراء الذين ذكرهم فاحتفظ عليهم، ثم أخذهم بأنواع النقمات التي اقترحها لهم، فقتل كل واحد منهم بنوع لم يقتل به الآخر، ومات العباس بن المأمون بمنبج، فدفن هناك، وكان سبب موته أنه أجاعه جوعا شديدا، ثم جيء بأكل كثير، فأكل منه وطلب الماء فمنع حتى مات، وأمر المعتصم بلعنه على المنبر وسماه اللعين.


بعد أن أنهى الله فتنة بابك الخرمي، وقضى عليه وعلى جيشه الأفشين ومن معه، وقبض على بابك وحبسه وراسل المعتصم فأمره بتسييرهم إليه, فدخل الأفشين وبصحبته بابك على المعتصم سامرا، ومعه أيضا أخو بابك في تجمل عظيم، وقد أمر المعتصم ابنه هارون الواثق أن يتلقى الأفشين، وأمر بابك أن يركب على فيل ليشهر أمره ويعرفوه، وعليه قباء ديباج وقلنسوة سمور مدورة، وقد هيؤوا الفيل وخضبوا أطرافه ولبسوه من الحرير والأمتعة التي تليق به شيئا كثيرا، ولما أحضر بين يدي المعتصم أمر بقطع يديه ورجليه وجز رأسه وشق بطنه، ثم أمر بحمل رأسه إلى خراسان وصلب جثته على خشبة بسامرا، وكان بابك قد شرب الخمر ليلة قتله.

لما قتل المعتصم بابك الخرمي توج الأفشين وقلده وشاحين من جوهر، وأطلق له عشرين ألف ألف درهم، وكتب له بولاية السند، وأمر الشعراء أن يدخلوا عليه فيمدحوه على ما فعل من الخير إلى المسلمين، وعلى تخريبه بلاد بابك التي يقال لها البذ، وتركه إياها قيعانا وخرابا.


هو بابك الخرمي (بابک خرمدین) زعيم ديني فارسي، وقائد فرقة الخرمية ظهر سنة 201هـ الموافق 816 م، في خلافة المأمون العباسي, وكثر أتباعه، وقاد ثورة على العباسيين بعد مصرع أبي مسلم الخراساني، استمرت حوالى عشرين سنة، وكان أحد الشجعان، أخاف الإسلام وأهله، وهزم الجيوش العباسية عشرين سنة، وغلب على أذربيجان وغيرها، وأراد أن يقيم الملة المجوسية، وعظم البلاء.

فأنفق المأمون والمعتصم على حرب بابك قناطير مقنطرة من الذهب والفضة، وفي هذه السنة بعث المعتصم نفقات إلى جيشه مع الأفشين، فكانت ثلاثين ألف ألف درهم، فكانت الحرب مع بابك الخرمي فطحنه الأفشين، واستباح عسكره، وأخذت البذ- مدينة بابك- وهرب واختفى في غيضة، ثم أسر بعد فصول طويلة, ولما أحضر بابك بين يدي المعتصم، أمر بقطع يديه ورجليه وجز رأسه وشق بطنه، ثم أمر بحمل رأسه إلى خراسان، وصلب جثته على خشبة بسامرا، فقطع دابر الخرمية.


 هو أبو محمد زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب أو زيادة الله الأول، أمير إفريقية، وكان أفصح أهل بيته لسانا وأكثرهم أدبا، وكان يقول الشعر، ويرعى الشعراء، كانت ولايته من قبل المأمون سنة 201هـ، فطالت أيامه واستقام الأمر, وبنى زيادة الله في أيامه سور القيروان ودار سوسة وقنطرة باب الربيع، وحصن الرباط بسوسة، وجامع القيروان بعد هدمه، وأنفق عليه ستة وثمانين ألف دينار، وفتح جزيرة صقلية على يد قاضيه أسد بن الفرات.

كان عمره يوم مات إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية أيام، وكانت إمارته إحدى وعشرين سنة وسبعة أشهر، وولي بعده أخوه أبو عقال الأغلب بن إبراهيم بن الأغلب.


لما فعل الروم ما فعلوا بأهل زبطرة وغيرها، وكانت فتنة بابك قد انتهت، سار المعتصم بجيشه قاصدا فتح عمورية؛ إذ كانت تعد من أقوى مدن الروم، بل ربما كانت بمكانة القسطنطينية، فكان أول الأمر أن التقى الأفشين مع الروم وهزمهم شر هزيمة، ثم سار المعتصم والأفشين وأشنان، كل على رأس جيش، متوجهين إلى عمورية وكانت حصينة ذات سور منيع وأبراج تحصن أهلها فيها، فنصب المنجنيق وهدم السور من جهة كانت ضعيفة دلهم عليها أحد الأسرى، فبعث نائب البلد لملك الروم كتابا يعلمه بالأمر، ولكن الكتاب لم يصل حيث قبض على الغلامين اللذين كان معهما الكتاب، ثم زاد الضرب بالمنجنيق حتى انهدم ذلك الجزء، لكنه لا يزال صغيرا على دخول الجيش، ثم إن الموكل بحفظ ذلك البرج من الروم لم يستطع الصمود، فنزل للقتال ولم يعاونه أحد من الروم, فأمر المعتصم المسلمين أن يدخلوا البلد من تلك الثغرة التي قد خلت من المقاتلة، فركب المسلمون نحوها، فجعلت الروم يشيرون إليهم ولا يقدرون على دفاعهم، فلم يلتفت إليهم المسلمون، ثم تكاثروا عليهم ودخلوا البلد قهرا، وتتابع المسلمون إليها يكبرون، وتفرقت الروم عن أماكنها، فجعل المسلمون يقتلونهم في كل مكان حيث وجدوهم، وقد حشروهم في كنيسة لهم هائلة ففتحوها قسرا وقتلوا من فيها وأحرقوا عليهم باب الكنيسة، فاحترقت فأحرقوا عن آخرهم، ولم يبق فيها موضع محصن سوى المكان الذي فيه النائب، وهو مناطس في حصن منيع، ثم أنزل مهانا وأخذ المسلمون من عمورية أموالا لا تحد ولا توصف، فحملوا منها ما أمكن حمله، وأمر المعتصم بإحراق ما بقي من ذلك، وبإحراق ما هنالك من المجانيق والدبابات وآلات الحرب؛ لئلا يتقوى بها الروم على شيء من حرب المسلمين، ثم انصرف المعتصم راجعا إلى ناحية طرسوس.